|
|
الصورة الرائجة للمخرج خالد يوسف أنه مثير للجدل، تشتعل حوله مع كل فيلم جديد له الحرائق والمعارك.. التلميذ النجيب ليوسف شاهين يخرج من كل معركة في مواجهة الإعلام والمثقفين والفنانين والجهات الرسمية، أكثر قوة، وأكثر سطوة، تسانده موهبته، ومفردات انحيازه لهموم الناس، وحديثه الحلو عن السياسة، في الانتصار.
الأمر يتكرر مجدداً مع فيلمه الأحدث في دور السينما المصرية «الريس عمر حرب».. لكن الجدل، هذه المرة، مختلف.. لا علاقة له بوجع دماغ السياسة، وضعف وانكسار العرب من المحيط إلى الخليج، ولا علاقة له بفوضى الحياة المصرية من الأمن إلى الصحة والتعليم، مع وحش الفقر الذي ينشب بمخالبه في الجميع..الجدل يتعلق هذه المرة بغرق خالد يوسف في وحل المشاهد الساخنة التي تتجاوز حدود ما درجت عليه السينما المصرية في كل تاريخها.. والتساؤلات التي تلوكها الألسن: هل تغير خالد يوسف؟ هل هرب من جحيم السياسة والمعارك الحقيقية لمصلحة البسطاء إلى نيران الغرائز الجنسية لمصلحة المرفهين؟
قبل عام 2000 ، كان خالد يوسف الشاب المتحمس، المتوقد ذكاء ونشاطاً، بسيطاً للغاية.. يجلس على «زهرة البستان» و«أفتر ايت» و«الحرية"» و«الندوة»، مقاهي المثقفين في وسط البلد بالقاهرة، يجادل كثيراً في السياسة، من زاوية الناصريين الذين يميل إليهم.. كان يأكل الفول بالزيت الحار، والباذنجان المقلي من عند «سعد الحرامي» ـ أشهر بائع فول وهذا لقب شهرته ـ ويتحدث بحب عن مشروعه السينمائي الأول الذي كان يعد له وقتها، فيلم «العاصفة»، ويدين بكل الفضل ليوسف شاهين.
لكنه، بعد ثمانية أعوام على هذه البداية، يبدو مختلفاً. بعد أفلام «العاصفة»، و«جواز بقرار جمهوري» و«أنت عمري»، و«ويجا» و«خيانة مشروعة»، ومشاركته ليوسف شاهين في «هي فوضى» وصولا إلى فيلمه قبل الأخير «حين ميسرة».. حياته اختلفت، ولم يعد هذا الشاب المتحمس الذي يكتفي بالكلام.. مجرد أن يكون اسمه على الأفيش يعني أن الفيلم متميز يستحق المشاهدة.. زادت المعارك، وزاد الجدل حوله.
صدمة وحيرة
حالياً يلقى فيلمه «الريس عمر حرب» إقبالاً من الجمهور بفعل السيرة واسمه.. لكن ما النتيجة؟
الإجابة: صدمة في الفيلم، وحيرة في شخصية مخرجه خالد.
|
|
الصدمة هي انه بعد الوصول إلى قمة التميز الفني والفكري في «حين ميسرة»، ننتقل إلى ضحالة الفكرة والتغريب في «الريس عمر حرب».. أما الحيرة فتكمن في شخصية خالد.. لم يعد يحاور ويناقش، بات منغلقاً على فكرة أنه يفهم في كل شيء، وأنه على صواب، ويمتلك صك الحقيقة، وبالتالي من حقه أن يفعل ما يريد.
الأمر ليس رجماً بالأكاذيب والاشاعات، ولا محاولة لتشويه صورة خالد، وإنما هو وقائع. فقبل عرض الفيلم اشتعلت الخلافات بينه وبين نجوم فيلمه: اعترضت سمية الخشاب على صورتها على الأفيش، وعلى مشاهدها بالإعلان المرئي الخاص بالفيلم الذي بدأت عرضه الفضائيات.. واعترض هاني سلامة أيضاً على مشاهده في الإعلان. وبدلاً من أن يحاورهما ويقنعهما بالضرورة الفنية، استغل تغيير الأفيش بسبب ضرورة حذف اسم الشركة المنتجة، التي كانت «مصر للسينما» ووضع اسم شركة الباتروس فقط على الأفيش، لجعل الصدارة والبطولة لخالد صالح، وتراجع هاني سلامة عن مركز الرؤية.. أما سمية فصارت رقم أربعة على الأفيش بعد خالد صالح وهاني وغادة عبدالرازق.
بقي أن نعرف ان شركة مصر للسينما، الشركة أسسها كامل أبو علي صاحب شركة الباتروس مع نجيب ساويرس برأس مال كبير جداً، وتعاقدا مع خالد يوسف على أن يكون مدير الإنتاج السينمائي بالشركة، ويتقاضى مبلغاً كبيراً، واتفقوا على أن يكون «الريس عمر حرب» باكورة إنتاج هذه الشركة. لكن بسبب عدم انتهاء إجراءات الشركة، تم الاتفاق على وضع اسم شركة الباتروس على الفيلم، وهو ما استدعى تغيير الأفيش.
خلافات ضربت العمل
ربما تكون الخلافات بين النجوم ومخرج أي فيلم في الدنيا عادية، ولكن في مصر تكون الخلافات في أغلب الأحيان مفتعلة من أجل الدعاية. لكنها في فيلم «الريس عمر حرب» خلافات حقيقية ضربت في عمق العمل الفني.
فالفيلم المعروض على ساعتين في دور السينما المصرية، كانت مدته الحقيقية بعد التصوير ثلاث ساعات.. والساعة التي حذفت كان لها العديد من الأسباب: الخلاف بين المخرج والنجوم من ناحية، ومن أجل الحفاظ على إيقاع الفيلم، وللتمييز بين الفيلم وفيلم آخر منافس هو «كباريه»، ولتدخل الرقابة.. فقد أكدت الرقابة أن العديد من المشاهد الجنسية حذفت، منها مشهد لغادة عبد الرازق وهاني سلامة، وخفف مشهد ممارسة الحب بين سمية الخشاب وهاني في السيارة، وقالت بالحرف «حذفنا شتائم كثيرة».
وكانت المفاجأة ما أكده هاني فوزي، مؤلف الفيلم، من أن خالد قام بمونتاج الفيلم أربع مرات، قبل أن يطير إلى لندن من أجل الطبع. ومع كل مونتاج كان خالد وأبطال الفيلم يشاهدون العمل، وتزداد فجوة الخلافات، ويقل عدد المشاهدين، ونسخة المونتاج الأخيرة لم يشاهدها سوى خالد بمفرده. وكانت النتيجة صدمة للمشاركين في العمل بعد حذف مشاهد كثيرة لسمية الخشاب، فغضبت.. وحذفت ثماني شخصيات من العمل منها شخصية كبيرة للممثلة الشابة ريم هلال بطلة فيلمي «بنات وموتسيكلات» و«كامب» حيث تعاقد معها خالد على أن تقدم شخصية سهير بالفيلم وهي «ديلر» في الكازينو.
وسافرت ريم مع فريق الفيلم إلى شرم الشيخ لمدة ثلاثة أسابيع حيث صورت الدور المكون من ثمانية مشاهد، وعند عرض الفيلم لم تظهر إلا في كادرين فقط، في أحدهما يتحرش بها ثري عربي ويضع يده في صدرها. وبدت ريم في الكادرين مجرد كومبارس، وهو أمر أغضبها للغاية.
وحرك خالد مشاهد السيناريو حسب مزاجه، وحذف مشاهد الراوي وتقديم شخصيات الفيلم في البداية. لكن ماذا عن الفيلم في النهاية، بعد أن كظم بعض النجوم غيظهم، وثار بعضهم، وتمت ترضية المؤلف، والتحكم في مشاعر ريم هلال؟!
عالم مجهول
عند قراءة عنوان فيلم «الريس عمر حرب» يبدو من الوهلة الأولى أنه دخول إلى عالم جديد، إلى مجتمع مجهول، وهو بالفعل كذلك. من المشهد الأول نحن في قلب كازينو للقمار. والأزمة الأولى أن هذا العالم لا يعرفه المصريون، يجهلون تفاصيله ومفرداته، فهم ممنوعون بحكم القانون ورغبة أصحاب صالات القمار من دخوله. معرفتهم الوحيدة عنه من خلال أفلام هوليوود عن لاس فيغاس، وحكايات الأثرياء العرب الذين يرتادون هذه الأماكن، ومن التحقيقات الصحافية، وفي الحقيقة الأمر لا يشغلهم من الأساس بحكم التردي الاقتصادي الذي يعانون منه.
لكنه في «الريس عمر حرب» الموضوع الرئيسي.. الكازينو هو مركز العالم، تصغير الدنيا، للخروج بخلاصة أفكار فلسفية لاشك في أنها تشغل خالد يوسف ومؤلف الفيلم ومنتجه. خالد يريد أن يستعرض عضلاته الفنية كمخرج في عالم جديد، والمؤلف هاني فوزي اعتبر الكازينو هو الدنيا، والريس عمر حرب في رأيه الشيطان الذي يغوي الإنسان، ويحرك غرائزه الجنسية والمادية.. أراد أن يخلق صراعاً بين الخير والشر على طريقته، ينتصر فيه الشر في النهاية.
أما منتج الفيلم كامل أبو علي، فبالتأكيد يهمه الكازينو كموضوع رئيسي، وكان غريباً منه الأخبار التي دفعها عبر مكتبه الإعلامي قبل عرض الفيلم، والتي روج فيها إلى شعارات أخلاقية منها أنه أنتج هذا الفيلم من أجل أن يجعل الناس تتوب عن القمار وعن دخول أي كازينو.
هدف أخلاقي أم تجاري؟
ولو نظرنا إلى شراكته مع نجيب ساويرس في إنتاج الفيلم، نصل إلى نتائج مخالفة لكلامه. فكامل أبو علي صاحب أهم القرى السياحية في الغردقة، وفيها رواد صالات القمار من اليهود الروس والإيطاليين، وساويرس شارك برأس مال كبير في أهم كازينو في مصر. وبالتالي ليس في صالحهما عزوف زبائن القمار من العرب والأثرياء والأجانب عن هذه الصالات.
وما نعرفه أن موسم كازينوهات القمار في مصر، وتحديداً في شرم الشيخ والغردقة، يبدأ الشهر القادم، ويستمر إلى أكتوبر، ونعرف أيضاً أن كازينوهات القمار في مصر تضررت العامين الأخيرين وقل دخلها بعد أن أنشأت السلطة الفلسطينية نادي أريحا لألعاب المائدة، وتزايدت بعدها النوادي، مما أثر على دخل مصر من أندية القمار، فقد تحول اليهود للعب القمار في نادي أريحا بدلاً من المجيء إلى مصر، لذلك اضطرت وزارة السياحة المصرية إلى زيادة تراخيص الأندية رغبة منها في جلب مزيد من السياح والدولارات.. وعلى منتجي الفيلم مراجعة أنفسهم في هدفهم من الفيلم.. هل الهدف أخلاقي كما قالوا أم أنه تجاري؟
رجل من طراز خاص
الريس عمر حرب (خالد صالح) مدير كازينو للقمار، هو رجل منذ طراز خاص، قوي الشكيمة كلمته لا ترد. منذ البداية نعرف أنه مقبل علي اختيار «ديلر» جديد من بين أربعين شاباً من الجنسين. و«الديلر» هو مدير المائدة، شخص يجب أن يكون مميزاً وفوق العادة، لأنه يقامر بأموال الكازينو، وعليه أن يدير رغبات الربح والخسارة داخل اللاعبين. وبالتالي فاختياره مهمة شاقة للغاية.
من بين المتقدمين خالد (هاني سلامة) الذي يأتي إلى شرم الشيخ للعمل في الكازينو من أجل إتمام زواجه. لكن بعد فترة تعرف الخطيبة طبيعة عمله فتفسخ خطبتها منه، ويقاطعه أهله وأصدقاؤه على اعتبار أن أمواله حرام. لكن هذا لا يدفعه إلى التراجع، بل يستمر في العمل ودخول تحدي أن يكون «ديلر محترفاً». والسبب أنه أغرم بالريس عمر حرب، وبقدراته الخارقة في اللعب، وفي إدارة الكازينو بطرق مشروعة، وغير مشروعة.
يريد خالد أن يكون مثل الريس عمر حرب، ويغوص في عالم الكازينو وتفاصيله.. يعرف الـ prostitute(هكذا تقال في الفيلم) وهي زينة فتاة المتعة والليل (غادة عبد الرازق)، التي تأتي بالزبائن وتقضي معهم السهرات الحمراء.. ويعرف الفتاة التي لها معاملة خاصة من الريس عمر حرب، حبيبة (سمية الخشاب).. ويلتقي بالزبائن من جميع الأنواع: الدنجوان الذي مهمته الوحيدة في الحياة اصطياد الثريات وسيدات الأعمال ونهب أموالهن ليلعب القمار على حذر، والشامي الذي يدمن القمار من أجل المكسب السريع المضمون حتى لو من خلال الاتفاق السري مع الديلر على أرقام اللعب، والثري الخليجي الذي يقامر بلا حدود على أن يضمن في آخر السهرة اصطحاب فتاة عذراء إلى غرفته ليفض بكارتها، والسوداني الذي يجرب حظه ويكسب الكثير ليطيح به في الهواء لأنها أموال حرام، والخواجة الذي يقرض اللاعبين بالربا بشيكات أو بضمان السيارة أو المشغولات الذهبية.
الزبون على حق
والتعليمات التي يتلقاها خالد منذ اللحظة الأولى، هو والمتنافسون معه، أن الزبون على حق مهما فعل. يقول: «أنا اتشتمت بأبويا وأمي.. حد فيكم أبوه وأمه أحسن من أهلي» ، و«اخلع مبادئك وشرفك مع دخول الكازينو»، و«الكازينو زي الكفن تدخل فيه عريان وتخرج منه عريان»، و«لا تصاحب الزبون سواء داخل الكازينو أو خارجه».
لكن لماذا كل هذا؟ لأن مكاسب صالة القمار بهذه الطريقة ملايين الدولارات يوميا، والخلافات التي تحدث بين الرواد تبدأ بالمناوشات الكلامية وقد تنتهي بالتشابك بالأيدي أحياناً، بل إن بعض اللاعبين يتعمد الاعتداء على «ديلر» المائدة أو ضرب خصمه بسبب الخسارة.
والفيصل الدائم في المشاحنات شريط المراقبة الواقع في غرفة المراقبة والتحكم، وهي غرفة مجهزة بوسائل تقنية عالية وتراقب أسلوب اللاعبين وتكشف أي تجاوز يحدث من «الديلر»، والمخالف يلقى من جراء ما قام به العقاب المناسب.. الزبون قد يقتل، و«الديلر» تقطع يده أو يموت في حادث حتى يكون عبرة لزملائه.
رحلة «ديلر»
وخالد الباحث عن المثل الأعلى في هذا العالم من خلال الريس عمر حرب يلتزم بالتعليمات حرفيا، ويدرب نفسه خفية من أجل أن يكون اللاعب الأمهر، ومن أجل أن يصل إلى قدرات الريس عمر حرب. وخلال ذلك يبدأ بالخروج عن التعليمات، ويدخل في علاقة مع الزبونة ذات المعاملة الخاصة حبيبة ويمارس معها الجنس، ويتعلق بها، ويعرف أن زوجها مصاب بالسرطان، وأنها تحتاج إلى أموال كثيرة لإجراء جراحة، فيفعل المستحيل لمساعدتها، ويرتكب المخالفات. يدخل في صداقة أخرى مع فتاة الليل زينة، وينجح من خلال لقاءات السرير الشاذة إلى إقناعها بالتعاون معه للاتفاق مع لاعبين تعرفهم على أرقام محددة، مقابل اقتسام الأرباح.
تتوتر الأجواء، ويعرف الريس عمر حرب بوجود عمليات غير سليمة، فيبحث عن «الديلر» مرتكب المخالفة للانتقام منه. وتتعدد المخالفات، وينجو خالد من أفعاله بأعجوبة، حتى يعترف بنفسه للريس عمر حرب بما قام به. لكن الريس عمر حرب يسامحه، ثم يحتفل به في منزله، ويقول له بالنص: «أنا اصطفيتك»، ثم «عايز لعب... العب تحت ايدي هاتلعب لوحدك هاسحقك».
نشعر بعدها من عين الريس عمر حرب وطلباته أنه ليس رجلاً عادياً. يطلب من خالد البعد عن حبيبة، ويقول له خالد: «أنا معاك.. هابقى عبدك».
ونصل إلى ذروة الفيلم في نهاية مسرحية وحوار فلسفي عن العبودية والربوبية والألوهية.. يكتشف من خلاله خالد أن الزبائن وموظفي الصالة وفتيات الليل والمتعة كلهم يعملون عند الريس عمر حرب، وكل العلاقات التي دخل فيها كانت بأوامر من الريس، وكل ما رآه كان من فعله. ويفتح له الريس ذراعيه من أجل أن يدخل مملكته، فيحضنه خالد ويصفق الجميع لينتهي الفيلم.
أزمة خالد
أزمة خالد يوسف في هذا الفيلم أنه يبتعد عن عالم المصريين الأثير، عن مشاكلهم وهمومهم.. يبدو أنه خانهم بعد أن رفعوه إلى مصاف النجوم. وأزمة الفيلم أنها عن عالم افتراضي، عن كازينو خاص يمثل مملكة الشر التي يديرها الشيطان. والمفردات بشرية، لكن النتيجة صدمة للجمهور، وصدمة في خالد!
حقيقي أن هناك مشاهد جديدة تعب فيها مع مدير التصوير الدكتور رمسيس مرزوق، وديكور الكازينو لتامر إسماعيل مميز، ومشاهد الكوابيس والأحلام جديدة، وخالد صالح وصل إلى قمة النضج في الأداء.. لكن كل هذا لا يكفي لصنع سينما جميلة تثير جدلا، وتترك ذكريات. ما شاهدناه يكفي فقط لصنع أحاديث نميمة، ويخلق تسالي كلامية لسهرات الليل عن مشاهد ممارسة الحب بين نجوم الفيلم، وعن الشكل الجديد للقبلة على شاشة السينما.. ويجعل الرقابة لا تملك سوى وضع لافتة «للكبار فقط على دور السينما»!