المشاهدة الأولى
مكة، حيث الحرم الشريف، وقد امتلأ عن آخره بالمعتمرين القادمين من كل مكان، كي يحظَوا بالعمرة في رمضان، وهي التي وصفها -صلى الله عليه وسلم- بأنها تَعْدِل حجةً معه صلى الله عليه وسلم؛ حيث أدوار الحرم المكيِّ الثلاثة ممتلئة عن آخرها، جموع المصلين يتسابقون للاعتكاف في الحرم، منهم من تعوَّد المجيء للعمرة في رمضان كل عام، ومنهم من اعتمر مرات ومرات، والأقل من يزور الحرم لأول مرة. المشاهدة الثانية
مع أذان المغرب تُفْرَش موائد الإفطار في الحرمين المكي والمدني، ويتسابق القائمون عليها لجذب المسلمين ليجلسوا في موائدهم، وكلما زاد عدد الجالسين ازداد فرح القائمين على هذه الموائد؛ لأنهم يرون أن أجرهم يزيد بقدر زيادة عدد المفطرين على موائدهم.
موائدُ أخرى ممتدة في معظم بلاد المسلمين، تعرف بـ"موائد الرحمن"، يتبرع بها الخيِّرون لإطعام الفقراء، تتعدد هذه الموائد وتكثر، ويتسابق المحسنون لإقامتها؛ لدرجة أن تجد المائدة والثانية والثالثة متجاورات، ولا تجد من يأكل فيها!.
المشاهدة الثالثة
ما زالت وكالات الأنباء تنقل إلينا أخبار إخواننا الأبطال في الانتفاضة، الذين يدخل عليهم رمضان، وهم مستمرون في عطائهم منذ ما يقارب الشهرين، أعمالهم معطلة، موارد رزقهم مغلقة، ضغط الحياة يزداد على الأسرة الفلسطينية كل يوم، وإسرائيل تزيد هذا الضغط بضغط الحصار والتضييق.
المشاهدة الرابعة
تتوالى الأخبار تباعاً تحكي لنا أحوال إخواننا المسلمين في أنحاء متعددة من العالم؛ حيث أنهكهم الجوع، وأضناهم الفقر، وأعياهم المرض، في بلاد شتى: الصومال، والقوقاز، وشبه القارة الهندية، والفليبين، وما زال السيل على الجرَّار.
المشاهدة الخامسة
أينما تولي وجهك في بلاد المسلمين، تجدها تحمل تشابها كبيراً في قضايا كثيرة، بعضها جيد، وكثيرٌ منها ليس كذلك، مظاهر سلبية كثيرة تسود مجتمعاتنا في كافة قطاعاته ومستوياته، تبدأ من الشوارع غير المعبدة التي تتفنن في تخريب السيارات، ومروراً بمجموعات الشباب التي تشكو البطالة وضيق ذات اليد، ووصولاً إلى مؤسسات المجتمع الغائبة عن الوعي قبل أن نتحدث عن غياب دورها الفاعل في المجتمعات.
التَطَلُّعُ الوحيد
حقاً رمضان شهر الخير، وحقاً عَبَقُه ينتشر في النفوس فيملؤها خيراً وجوداً وبذلاً، وما زال المسلمون فيه يقتدون بنبيهم الكريم –صلى الله عليه وسلم - الذي كان "أجود من الريح المرسلة"، وهذه الخيرية ولا شك محمودة مطلوبة، ولكنْ.. تتراءى أمام عينيك صورٌ وخيالات متناقضة: الخيرات تترى أمام ناظرينا في أماكن، وأماكنُ أخرى تشكو الفاقة والعَوز!.. مسلمٌ هنا لا يجد مَنْ يأكل طعامه، وآخرُ هناك لا يجد ما يسدُّ به حاجته! تسابقٌ محمومٌ لأداء العمرة كل عام، والمسلمون في فلسطين لا يجدون السند الذي يضمنون به الاستمرار في جهادهم!.. أموالٌ تصرف هنا وهناك في مجالات الخير، ولكن مبدأ التكافل الإسلامي الحقيقيّ غائب! فلم يفكر أحدٌ في توجيه هذه الأموال لتشغيل الشباب في مشروعاتٍ صغيرةً كانت أم كبيرة، ولم يخطر ببالِ المحسنين أن يقدموا هذه الخيرية لإعفاف المسلمين والمسلمات، ولم تكن هذه الخيرية الدافقة وسيلةً لإصلاح أي شيء في المجتمع من الشوارع إلى المنشآت إلى المساهمة في حلّ أزمات كثيرة!
صورٌ وخيالاتٌ متناقضةٌ متعارضة.. تبقى جزءاً من مجتمعٍ ألِف التناقض والتعارض.. وذاك هو المجتمع المسلم اليوم.
لستُ أبداً ضد فعل الخير، ولا يمكن أن أفكِّر أبداً في ثني المسلمين عن الذهاب للعمرة أو نصب موائد الإفطار.. ولكنها فضائلُ وأولويات.. وسباقٌ في كسب الأجر، والأجر -والله- في حاجةِ المسلمين أكبر وأعظم، وليس هذا كلام أدَّعيه، بل هو ما تأسس عليه الإسلام، يقول ابن القيم رحمه الله: "الشجاعُ الشديد الذي يهاب العدو سطوته: وقوفُه في الصف ساعة، وجهادُه أعداء الله، أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع، والعالِمُ الذي قد عرف السُّنَّة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطُته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح".
وكذا المؤمنُ الذي يودُّ أداء العمرة كل عام: إعطاءُ قيمتها إلى من يحتاجها من المسلمين خيرٌ له وأعظم أجراً، وأيضاً المحسنُ الذي يريد إقامة ولائم إفطارٍ للصائمين: تقديمُ هذه الأموال للجائعين والمعوزين من المسلمين أولى وأهم.
هكذا هو ديننا، نصرة المؤمنين ومساعدتهم فرض، وأداء العمرة والتقرب إلى الله سُنَّة، ولا يمكن بحالٍ أن يساوي أجرُ الفرض أجرَ السُّنَّة.
"المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم"رواه البخاري.. حديثٌ قاله نبينا -صلى الله عليه وسلم- منذ أمدٍ بعيد.. ولم يفقهه المسلمون اليوم بعدُ.. وأظن أنّ الأوان قد آنَ كي نفهمه إيماناً وتطبيقاً وممارسة، فيطبقه المحسنون الخيّرون بشكلٍ جماعيٍّ لا فرديٍ فقط، بتكوين الجمعيات الفاعلة في مجالات المجتمع المختلفة، جمعيات تعالج مشاكل البطالة، والزواج، وسوء التنظيم، والازدحامات، وتلف الشوارع والمنشآت، و… في قائمةٍ طويلةٍ طويلةٍ.
أمنيةٌ أتمنى أن يكون لها "عُمَر".. وأملٌ يبحث عن "صلاح".. وتطلُّعٌ ينتظر قلباً يفهم دينه فهماً صحيحاً كاملاً..
وكلُّ عامٍ أنتم إلى الله أقرب